فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}
وقيل: أحب المال حبًا شديدًا حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت فلذلك يحفظه عن النقصان ليبقى حيًا وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل {كلًا} ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن هو أن المال مخلد بل المخلد هو العلم والعمل كما قال علي رضي الله عنه: مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. عن الحسن أنه عاد موسرًا فقال: ما تقول في ألفو لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: ولكن لماذا قال لنبوة الزمان وجفوة السلطان ونوائب الدهر ومخافة الفقر؟ قال: إذًا تدعه لمن لا يحمدك وترد على من لا يعذرك. قوله: {لينبذن} جواب قسم محذوف أو جواب حقًا لأنه في معنى القسم. والنبذ الطرح وفيه إشعار بإهانته. وفي قوله: {في الحطمة} وهي النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر كل ما يلقى فيها إشارة إلى غاية تعذيبه. ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة ووزنها (فعلة) كهمزة ولمزة فكأنه قيل له: كنت همزة لمزة فقا بلناك بالحطمة. وأيضًا في الحطم معنى الكسر والهماز اللماز يكسر الناس بالاغتياب والعيب أو يأكل لحمهم كما يأكل الرجل الأكول. ثم كأن قائلًا سأل كيف قوبل الوصفان بوصف واحد؟ فقيل: إنك لا تعرف ذلك الواحد وما أدراك ما هذه الحطمة {نار الله} هي إضافة تعظيم كبيت الله {الموقدة التي تطلع على الأفئدة} أي تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على جنانها وخباياها. ولا شيء في الإنسان ألطف منه ولا أشد تألمًا. ويجوز أن يكون في تخصيص الأفئدة إشارة إلى زيادة تعذيب للقلب لأنه محل الكفر والعقائد الفاسدة.
وعند أهل التأويل: إذا كانت النار أمرا معنويًا فلا ريب أنه لا يتألم بها إلا الفؤاد الذي هو محل الإدراكات والعقائد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن النار تأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم أي تعلوها وتغلبها انتهت ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى» والمؤصدة المطبقة الأبواب اصدت الباب وأوصدته لغتان. يوصد عليهم الأبواب ويمدد على الأبواب العمد استيثاقًا في استيثاق. وجوز أن يراد أن أبواب النار عليهم مؤصدة حال كونهم مؤثقين في عمد مقطرة، والمقطرة خشبة فيها خروق يدخل فيها أرجل المحبوسين اللهم أجرنا منها.
قال المبرد: والعمد بفتحتين جمع عمود على غير واحده وأما الجمع على واحده فالعمد بضمتين مثل زبور وزبر ورسول ورسل.
قال الفراء: العماد والعمد كالإهاب والأهب فالتأنيث لأنه اسم جمع أو بتأويل الاسطوانة. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الهمزة:
مكية.
وهي تسع آيات.
وثلاثون كلمة.
ومائة وثلاثون حرفًا.
{بسم الله} الحكم العدل {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل البخل وأولي العدل {الرحيم} الذي خص أولياءه بزيادة الفضل.
وقوله تعالى: {ويل} فيه قولان:
أحدهما: أنه كلمة عذاب.
والثاني: أنه واد في جهنم {لكل همزة لمزة} قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب، فعلى هذا هما بمعنى.
وقال صلى الله عليه وسلم: «شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب».
وقال مقاتل: الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللمزة الذي يعيبك في الوجه.
وقال أبو العالية والحسن: الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه، وهذا اختيار النحاس. ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة).
وقال سعيد بن جبير: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة الطعان عليهم.
وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم.
وقال سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه.
وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه. وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منهم. وأصل الهمز الكسر واللمز الطعن، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم حتى صار ذلك عادة، لأنه خلق ثابت في جبلتهم والذي دلّ على الاعتياد صيغة فعلة بضم ففتح، كما يقال: ضحكة للذي يفعل الضحك كثيرًا حتى صار عادة له وضرى به.
واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم.
وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أنّ سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحيّ.
وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه.
وقال مجاهد: هي عامّة في حق من هذه صفته.
وقوله تعالى: {الذي جمع مالًا} بدل من كل، أو ذمّ منصوب أو مرفوع.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد الميم على المبالغة والتكثير ولأنه يوافق قوله تعالى: {وعدّده} والباقون بتخفيفها، وهي محتملة للتكثير وعدمه، ومعنى عدّده: أحصاه وجعله للحوادث.
وقال الضحاك: أعدّ ماله لمن يرثه من أولاده، وقيل: فاخر بعدده وكثرته: والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة كقوله تعالى: {مناع للخير} (ص)
وقوله تعالى: {جمع فأوعى} (المعراج)
{يحسب} أي: يظنّ لجهله {أنّ ماله أخلده} أي: أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا فيصير خالدًا فيها لا يموت، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض عمل من يظنّ أنّ ماله أبقاه حيًا، أو هو تعريض بالعمل الصالح، أو أنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم، فأمّا المال فما أخلد أحدا فيه. وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلاف دينار.
وعن الحسن: أنه عاد موسرًا فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: لماذا؟ قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان ونوائب الدهر، ومخافة الفقر.
قال: إذًا تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها.
وقوله تعالى: {كلا} ردع له عن حسبانه، وقيل: معناه حقًا. وقوله تعالى: {لينبذنّ} جواب قسم محذوف، أي: ليطرحن بعد موته {في الحطمة} أي: الطبقة من جهنم التي شأنها أن تحطم، أي: تكسر بشدّة وعنف كل ما طرح فيها يكون أخسر الخاسرين ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة.
{وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك، ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الحكماء {ما الحطمة} أي: الدركة النارية التي سميت هذا الاسم بهذه الخاصة، وإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالًا لها، ثم فسرها بقوله تعالى: {نار الله} أي: الملك الأعظم الذي له الملك كله {الموقدة} أي: التي وجد وتحتم إيقاده، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقد فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتًا.
روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة».
{التي تطلع} أي: إطلاعًا شديدًا {على الأفئدة} جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدّة ذكائه فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، وإطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالًا بليغًا سُمِّيَ بذلك لشدّة توقدّه وخُصَّ لأنه ألطف ما في البدن وأشدّ تألمًا بأدنى شيء من الأذى، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة، ومعدن حبّ المال الذي هو منشأ حبّ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة.
وقيل: معنى {تطلع على الأفئدة} أي: تعمل ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب يقال: اطلع على كذا، أي: علمه.
ثم أشار إلى خلودهم فيهابقوله تعالى مؤكدًا لأنهم يكذبون بها:
{إنها عليهم مؤصدة} قال الحسن: مطبقة، أي: بغاية الضيق.
وقال مجاهد: مغلقة بلغة قريش، يقال: أصدت الباب، أي: أغلقته ومنه قول عبد الله بن قيس:
إنّ في القصر لو دخلنا غزالًا ** مفتنًا مؤصدًا عليه الحجاب

ثم بين حال عذابهم بقوله تعالى: {في} أي: في حال كونهم موثوقين في {عمد} قرأ حمزة والكسائي وشعبة بضم العين والميم جمع عمود نحو رسول ورسل، وقيل: جمع عماد ككتاب وكتب، والباقون بفتحهما فقيل: هو اسم جمع لعمود، وقيل: بل هو جمع له.
قال الفراء: كأديم وأدم.
وقال أبو عبيدة: هو جمع عماد.
{ممددة} أي: معترضة كأنها موضوعة على الأرض في غاية المكنة فلا يستطيع الموثوق بها على نوع حيلة في أمرها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق، وتسدّ بتلك المسامير، وتمدّ بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غم فيكون كلامهم فيها زفيرًا وشهيقًا».
وقال قتادة: عمد تعذبون بها، واختاره الطبريّ.
وقال ابن عباس: إنّ العمد الممدّدة أغلال في أعناقهم.
وقال أبو صالح قيود في أرجلهم.
وقال القشيري: العمد أوتاد الأطباق.
وقيل: المعنى في دهور ممدودة لا انقطاع لها. وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه» حديث موضوع. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَيْلٌ} مبتدأٌ خبرُهُ {لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} وساغَ الابتداءُ بِه معَ كونِه نكرةً لأنهُ دعاءٌ عليهم بالهلكةِ أو بشدةِ الشرِّ والهَمْزُ الكسرُ كالهزمِ واللمزِ الطعنُ كاللهزِ شَاعا في الكسرِ مِنْ أعراضِ النَّاسِ والطعن فيهمْ وبناء فُعَلةٍ للدلالةِ عَلى أنَّ ذلكَ منْهُ عَادةٌ مُستمرةٌ قَد ضَرَى بَها وكذلكَ اللُّعَنةُ والضُّحَكَةُ وقرئ لكُلِّ هُمْزةٍ لُمْزةٍ بسكونِ الميمِ وهُوَ المسخرةُ الذي يأتي بالأضاحيكِ فيضحكُ منْهُ ويُستهزأُ بهِ وقيلَ: نزلتْ في الأخنسِ بْنِ شُرَيقٍ فإنَّهُ كانَ ضاريًا بالغِيْبةِ والوقيعةِ، وقيلَ: في أميةَ بنِ خَلَفٍ، وقيلَ: في الوليدِ بْنِ المغيرةِ واغتيابِه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم غضةً مِنْ جنابِه الرفيعِ واختصاصُ السببِ لا يستْدِعي خصوصَ الوعيدِ بهمِ بلْ كلُّ منْ اتصفَ بوصفهِم القبيحْ فلَهُ ذنوبٌ منْهُ مثلُ ذنوبِهم {الذى جَمَعَ مَالًا} بدلٌ منْ كُلِّ أوْ منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ وقرئ جَمَّعَ بالتشديدِ التكثيرُ وتنكيرُ مالًا للتفخيمِ والتكثيرِ الموافقُ لقوله تعالى: {وَعَدَّدَهُ} وقيلَ: مَعْنى عَدَّدَهُ جعلَهُ عدةً لنوائبِ الدَّهرِ وقرئ وَعَدَدَهُ أيْ جمعَ المالَ وضبطَ عَدَدَهُ أوْ جمعَ مالَهُ وعددَهُ الذينَ ينصرونَهُ منْ قولك فلانٌ ذُو عُددٍ وَعَددٍ إذَا كانَ لَهُ عددٌ وافرٌ منَ الأنصارِ والأعوانِ وقيلَ هُو فعلٌ ماضٍ بفكِّ الإدغامِ {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أيْ يعملُ عملَ منْ يظنُّ أنَّ مالَهُ يبقيهِ حيًا والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ وقيلَ طَوَّلَ المالُ أَمَلَه وَمَنَّاهُ الأَمَانيِّ البعيدةَ حَتَّى أصبحَ لفرطِ غفلتِه وطولِ أملِه يحسبُ أنَّ المالَ تركَهُ خَالدًا في الدُّنيا لا يموتُ وقيلَ هُو تَعريضٌ بالعملِ الصالحِ والزهدِ في الدُّنيا وأنَّه هُوَ الذي أخلدَ صاحبَهُ في الحياة الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ فأمَّا المالُ فليسَ بخالدٍ لا بمُخَلِّدٍ. ورُوِيَ أنَّ الأخنسَ كانَ لهُ أربعةُ آلافِ دينارٍ وقيلَ: عشرةُ آلافٍ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ منْ فاعلِ جَمَع {كَلاَّ} ردعٌ لهُ عنْ ذلكَ الحْسبانِ الباطلِ وَقوله تعالى: {لَيُنبَذَنَّ} جوابُ قسمٍ مقدرٍ وَالجملةُ استئنافٌ مبينٌ لعلةِ الردعِ أيْ والله ليطرحنَّ بسببِ تعاطيِه للأفعالِ المذكورةِ {فِى الحطمة} أيْ في النارِ التي شأنُها أنْ تحطمَ وتكسرَ كُلَّ مَا يُلْقَى فيهَا كَما أنَّ شأنَهُ كسرُ أعراضِ النَّاسِ وجمعُ المالِ.
وَقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة} لتهويلِ أمرهَا ببيانِ أنَّها ليستْ منِ الأمورِ التي تنالهَا عقول الخلق، وقوله تعالى: {نَارُ الله} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ بيانٌ لشأنِ المسؤولِ عَنْها أيْ هيَ نارُ الله {الموقدة} بأمر الله عزَّ سلطانُهُ وفي إضافتها إليهِ سبحانه ووصفُهَا بالإيقادِ منْ تهويلِ أمرهَا مَا لاَ مزيدَ عليهِ {التي تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} أيْ تعلُو أوساطَ القلوبِ وتغشاهَا وتخصيصُها بالذكرِ لما أنَّ الفؤادَ ألطفُ ما في الجسدِ وأشدُّة تألمًا بأدْنى أَذى يمسُّهُ أوْ لأَنَّه محلُ العقائدِ الزائغةِ والنياتِ الخبيثةِ ومنشأُ الأعمالِ السيئةِ.
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} أي مطبقة من أوصدت الباب وأصدته أي أطبقته.
{فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في عليهمْ أيْ كائنينَ في عمدٍ ممددةٍ أيْ موثقينَ فيهَا مثلُ المقاطرِ التي تُقطرُ فيهَا اللصوصُ أوْ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أيْ هُمْ في عمدٍ أو صفةٌ لمؤصدة قاله أبُو البقاءِ أيْ كائنةٌ في عمدٍ ممدودةٍ بأنْ تؤصدَ عليهمْ الأبوابُ وتمددَ على الأبوابِ العمدُ استيثاقًا في استيثاقٍ اللهمَّ أجرنَا منها يا خيرَ مستجارٍ وقرئ عُمُدٌ بضمتينِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}
تقدم الكلام على إعراب مثل هذه الجملة والهمز والكسر كالهمز واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من اعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم وأصل ذلك كان استعارة لأنه لا يتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الأجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود قال زياد الأعجم.
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني ** وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن سئل عن ذلك فقال هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان.
وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان وقيل غير ذلك وما تقدم أجمع.
وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه {لكل همزة لمزة} بسكون الميم فيهما على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك على ما أخرج بن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف وعلى ما أخرج عن السدى في أبي بن عمر والثقفي الشهير بالاخنس بن شريق فإنه كان متغتابًا كثير الوقعية وعلى ما قال ابن اسحق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه وعلى قول في العاص بن وائل ويجوز أن يكون نازلًا في جميع من ذكر لكن استشكل نزولها في الأخنس بأنه على ما صححه ابن حجر في (الإصابة) أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم فلا يتأتى الوعيد الآتي في حقه فامًا أن لا يصح ذلك أو لا يصح إسلامه.
وأيضًا استشكلت قراءة الباقر رضي الله تعالى عنه بناء على ما سمعت في معناها وكون الآية نازلة في الوليد بن المغيرة ونحوه من عظماء قريش وبه اندفع ما في التأويلات من أنه كيف عيب الكافر بهذين الفعلين مع أن فيه حالا أقبح منهما وهو الكفر وأما ما أجاب به من أن الكفر غير قبيح لنفسه بخلافهما فلا يخفى ضعفه لأن فوت الاعتقاد الصحيح أقبح من كل شيء قبيح وقوله تعالى: {الذى جَمَعَ مَالًا} بدل من {كل} بدل كل وقيل بدل بعض من كل وقال الجاربردي يجوز أن يكون صفة له لأنه معرفة على ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} [ق: 21] إذ جعل جملة {معها سائق} حالا من كل نفس لذلك ولا يخفى ما فيه ويجوز أن يكون منصوبًا أو مرفوعًا على الذم وتنكير مالا للتفخيم والتكثير وقد كان عند القائلين إنها نزلت في الأخنس أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف وجوز أن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أنه عند الله تعالى أقل وأحقر شيء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والاخوان {جمع} بشد الميم للتكثير وهو أوفق بقوله تعالى: {وَعَدَّدَهُ} أي عدة مرة بعد أخرى حباله وشغفا به وقيل جعله أصنافًا وأنواعًا كعقار ومتاع ونقود حكاه في التأويلات وقال غير واحد أي جعله عدة ومدخرًا لنوائب الدهر ومصائبه.
وقرأ الحسن والكلبي {وعدده} بالتخفيف فقيل معناه وعده فهو فعل ماض فك إدغامه على خلاف القياس كما في قوله:
مهلا اعاذل هل جربت من خلقي ** إنى أجود لأقوام وان ضننوا

وقيل هو اسم بمعنى العدد المعروف معطوف على ماله أي جمع ماله وضبط عدده وأحصاه وليس ذلك على ما في الكشف من باب:
علفتها تبنا وماء باردًا

لأن جمع العدد عبارة عن ضبطه وإحصائه فلا يحتاج إلى تكلف وعلى الوجهين أيد بالقراءة المذكورة المعنى الأول لقراءة الجمهور وقيل هو اسم بمعنى الاتباع والأنصار يقال فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم وهو معطوف على ماله أيضًا أي جمع ماله وقومه الذين ينصرونه.
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} جملة حالية أو استئنافية وأخلده وخلده بمعنى أي تركه خالذًا أي ما كثا مكثًا لا يتناهى أو مكثا طويلًا جدًا والكلام من باب الاستعارة التمثيلية والمرادان المال طول أمله ومناه الأماني البعيدة فهو يعمل من تشييد البنيان وغرس الأشجار وكرى الأنهار ونحو ذلك عمل من يظن أنه ماله أبقاه حيا والاظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتعبير بالماضي للمبالغة في المعنى المراد وجوز أن يراد انه حاسب ذلك حقيقة لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما أمامه من قوارع الآخرة أو لزعمه إن الحياة والسلامة عن الأمراض والآفات تدور على مراعاة الأسباب الظاهرة وإن المال هو المحور لكرتها والملك المطاع في مدينتها وقيل المراد انه يحسب المال من المخلدات ولا نظر فيه إلى أن الخلود دنيوي أو أخروي ذكرًا أو عينًا إنما النظر في إثباتا هذه الخاصة للمال والغرض منه التعريض بأن ثم مخلدًا ينبغي للعاقل أن يكب عليه وهو السعي للآخرة وهو بعيد جدًا ولذا لم يجعل بعض الأجلة التعريض وجهًا مستقلًا وزعم عصام الدين أنه يحتمل أن يكون فاعل أخلد الحاسب ومفعوله المال أن يظن أن يحفظ ماله أبدًا ولا يعرف أنه مرعض للحوادث أو للمفارقة بالموت كما قيل بشر مال البخيل بحادث أو وارث وهو لعمري مما لا عصام له.
{كَلاَّ} ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه المفرط على ما قيل واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظًا ومعنى وأنا لا أرى بأسًا في كون ذلك ردعًا له عن كل ما تضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة وقوله تعالى: {لَيُنبَذَنَّ} جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب أفعاله المذكورة {فِى الحطمة} أي في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقي فيها وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعيًا منزلة المعتاد.
والحطم كسر الشيء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا:
انا حطمنا بالقضيب مصعبا ** يوم كسرنا أنفه ليغضبا

ويقال رجل حطمة أي أكول تشبيهًا له بالنار ولذا قيل في أكول كأنما في جوفه تنور، وفسر الضحاك {الحطمة} هنا بالدرك الرابع من النار.
وقال الكلبي هي الطبقة السادسة من جهنم وحكى القشيري عنه أنها الدرك الثاني.
وقال الواحدي هي باب من أبواب جهنم وزعم أبو صالح انها النار التي في قبورهم وليس بشيء وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة} لتهويل أمرها ببيان انها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن بخلاف عنه وابن محيصن وحميد وهرون عن أبي عمرو {لينبذان} بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله.
وعن الحسن أيضًا {لينبذن} بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع {لكل همزة} باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وانصاره بناء على ما سمعت في قراءته هناك.
وعن أبي عمرو {لننبذنه} بنون العظمة وهاء النصب ونون التأكيد.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه {في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة}.
{نَارُ الله} خبر مبتدأ محذوف والجملة لبيان شان المسؤول عنها أي هي نار الله {الموقدة} بأمر الله عز وجل وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل ما لا مزيد عليه.
{الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}
أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد الطف ما في الجسد وأشده تالما بادنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الأعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب انه قال في الآية تأكل كل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤاد فإذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه وجوز أن يراد الإطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل اناه تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم ما فيها فتجازي كلا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب.
وأرباب الإشارة يقولون ان ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب.
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد.
{فِى عَمَدٍ} جمع عمود كما قال الراغب والفراء وقال أبو عبيدة جمع عماد وفي البحر وهو اسم جمع الواحد عمود.
وقرأ الإخوان وأبو بكر {عمد} بضمتين وهارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف.
وقوله تعالى: {مُّمَدَّدَةِ} صفة {عمد} في القراءات الثلاث أي طوال والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في {عليهم} أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون فيها وهي والعياذ بالله تعالى على ما روي عن ابن زيد عمد من حديد.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها من نار واستظهر بعضهم أن العمد تمدد على الأبواب بعد أن تؤصد عليهم تأكيدًا ليأسهم واستيثاقًا في استيثاق.
وفي حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعًا «أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز وجل إلى أهل النار ملائكة باطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار فيطبق عليهم بتلك الأطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم وينساهم الجبار عز وجل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولا يستغيثون بعدها أبدًا وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرًا وشهيقًا» وفيه «فذلك قوله تعالى: {إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة}».
اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار.
وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بـ: {مؤصدة} حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكان الطيبي وفي الإرشاد عن أبي البقاء أنه صفة لـ: {مؤصدة} وقال بعض لا مانع عليه أن يكون صلة {مؤصدة} على معنى أن الأبواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب ثم إن ما ذكر لإشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفارًا همزوا ولمزوا خير البشر صلى الله عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لأن المغتاب كأنه سارق من أعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود.
وقد يقال من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى: {همزة لمزة} قيل {الحطمة} للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الأضلاع المدلول عليه بالحطمة وجيء بالنبيذ المنبئ عن الاستحقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيء في مقابله {تطلع على الأفئدة} [الهمزة: 7] ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن يوصد عليه قيل في مقابله إنها عليهم مؤصدة ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل في عمد ممددة وقد صرح بذلك بعض الأجلة فليتأمل والله تعالى أعلم. اهـ.